فيصل عساف
12-28-2016, 01:24 AM
أساليب تجديد الفقه الإسلامي المعاصرة
1- الطريقة السلفية : وهي العودة إلى فقه السلف من صحابة وتابعين والتخلى عن فقه المذاهب، وقد ألف الدكتور المرحوم محمد يوسف موسى كتابًا في (تاريخ الفقه الإسلامي : دعوة قوية لتجديده بالرجوع لمصادره الأولى).
وصنف بعضهم كتبًا في فقه السلف مثل (معجم فقه السلف) للأستاذ الشيخ المرحوم محمد المنتصر الكتانى ، و(موسوعة إبراهيم النخعى) للأستاذ الدكتور رواس قلعجي، وغيرهم كـ (فقه عمر) ، وبعض المجددين يشتط فيعادى فقه المذاهب أو يسيء تقدير مذاهبهم.
2- الطريقة الانتقائية أو الغوغائية : وهي انتقاء ما يحلو للنفس بالهوى والشهوة، واختيار بعض الأحكام وإهمال بعضها الآخر، مع أن الإسلام لا يتبعض، وكل لا يتجزأ، والحكم على هذه الطريقة كسابقتها أنها مجافية للصواب.
3- الطريقة العدوانية : وهي معاداة صرح الفقه الإسلامي برمته، والتخلى عن الثروة الفقهية الخصبة التى اعترف بها كبار الحقوقيين ورجال القانون في العالم المعاصر. وهي طريقة الهدم ومحاولة التغريب عند السذج . ومن منهجهم جعل النص الشرعي آخر المطاف، فيأخذون بحسب ميولهم وأهوائهم ما يرونه مصلحة، ويجعلون النص الشرعي في آخر المطاف للاستئناس احتياطيًّا. إذًا فما قيمة التشريع الإلهي خاصة عندما لا يحترم النص؟ وهل يجرؤ هؤلاء على إهمال نصوص القانون الوضعي ومطالبة القضاة بالتغاضى عنها؟
4- الطريقة التقريبية : أي تقريب الفقه من القانون الوضعى، وكأن للقانون الوضعي صفة القداسة، والفقه الإسلامي دونه شكلاً ومضمونًا، وهؤلاء يحاولون تأويل النصوص الشرعية تأويلاً بعيدًا منافيًا لصراحة النص وغايته، وهذا قلب للأوضاع؛ لأن القانون الوضعى يقر واقع العلاقات الاجتماعية لتحقيق الاستقرار بغض النظر عن الدين والأخلاق.
مع الإشارة إلى أن القوانين الوضعية غير مستقرة، وأنها قابلة للتعديل والتغيير، وتظل قاصرة في رأي واضعيها عن الوصول إلى مستوى السمو المتمثل في الدين والأخلاق . فكيف يصح أن نجعل هذه القوانين الوضعية أصلاً، والفقه الإسلامي تبعًا؟؟
5- طريقة تجديد الفقه المعتدلة المتوازنة أو الوسطية : المقبولة شرعًا وعقلاً، وهي غاية كل مسلم ملتزم بدينه، غيور عليه، وهي المقصود من بحثنا، وهذه الطريقة تحافظ أولاً على ثوابت الشريعة، وتراعى مقتضيات التطور على أساس المصالح المرسلة بما فيها الأعراف العامة، عملاً بروح النص، فهي تحقق إذًا الأصالة والمعاصرة، وحينئذ لا جمود عن مواكبة التطور. ومن أمثلتها قيام ظاهرة المصارف الإسلامية ومحاولة توسيعها ونشرها في أرجاء العالم العربي.
التعريفات
تعريف التجديد :
قال الفيروز ابادى في القاموس والزبيدى في تاج العروس : (الجد - بكسر الجيم - الاجتهاد في الأمر) ، والتجديد هو الاجتهاد في إخراج القديم بقالب جديد، إما بإخراجه إخراجًا حديثًا أو بكشف ما في القديم من خفاء، بإبراز خفاياه وخباياه، أو بتصويره بصورة مقبولة واقعية . وفي الحديث: (إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها) رواه أبو داود وهو صحيح .
تعريف الاجتهاد :
لغة : كما ذكر الآمدى في الإحكام هو : (استفراغ الوسع في تحقيق أمر من الأمور مستلزم للكلفة والمشقة) . واصطلاحًا: هو كما عرفه الكمال بن الهمام في التحرير : (بذل الطاقة من الفقيه في تحصيل حكم شرعي، عقليًّا كان أو نقليًّا، قطعيًّا أو ظنيًّا) .
لكن ما المقصود بالفقه الإسلامي؟
الفقه لغة هو الفهم، وهو كما عرفه الأصوليون: (العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية، أو المصادر التشريعية العشرة) .
وهكذا يتبين لنا أن التجديد الفقهي في الإسلام مرتبط ارتباطًا وثيقًا بعلم أصول الفقه، بل بدائرة أوسع من أصول الفقه اعتمادًا على:
- القواعد الكلية وما يتفرع عنها.
- الأخذ بمقاصد الشريعة ومكملاتها.
- رعاية ضوابط الاستحسان والاستصلاح والعرف وغيرها من مصادر التشريع .
- القواعد الكلية المعمول بها في كل المذاهب وهي خمسة .
وإذا كنا نتحدث عن الفقه الإسلامي فيجب أن نعلم أن الحاكمية لله، لقوله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَــقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَــــاصِلِينَ) (الأنعام :57) ، وقوله تعالى (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين) (الأعراف: 54) وهذا يعنى خروج النظم الوضعية وتشريعاتها عن موضوع بحثنا وحدوده .
شروط المجدد أو المجتهد
1- وهي الإسلام والبلوغ والعقل، وتسمى شروط التكليف .
2- ومعرفة القرآن وعلومه، والسنة الشريفة وعلومها، ومواضع الإجماع، واللغة العربية لفهم خطاب العرب، ووجوه القياس ، وتسمى هذه الشروط: أساسية .
3- وهناك شروط تكميلية، مثل معرفة البراءة الأصلية، والمقاصد الشرعية، والقواعد الكلية الفقهية، ومواضع الخلاف، والعُرف، والمنطق، إضافة إلى عدالة المجتهد وصلاحه، وحُسن سيرته حتى يثق الناس بأقواله، مع الورع في المأكل والابتعاد عن الشبهات، والعفة عمّا في أيدى الناس، والافتقار إلى الله تعالى، والتوجه إليه بالدعاء، ولابد من ثقة المفتى بنفسه وشهادة الناس بذلك، وموافقة عمله مقتضى قوله .
أهلية المُجدّد : فإن حاول بعض الناس ممن لا أهلية له الاجتهاد، فإن اجتهاده غير مقبول، لأن الاجتهاد له أصول، ومن لا يُلمّ بأصوله ويجهل قواعده، يكون اجتهاده مبنيًا على الهوى، والهوى يُضل ولا يهدى . إن التقدم لا يكون بالعبث في الأحكام الشرعية، أو الإتيان بما يخُالف النص أو يتخطاه، وإنما هو بإرادة الدولة وتخطيطها ، وسنعطى مثالاً على ذلك هو اليابان، فقد أصبحت في مدة خمسين سنة تنافس الغرب والشرق بتقنيتها العالية الدقيقة، بل فاقت أوروبا وأمريكا .
من هنا اشترط الإمام الغزالي في المجدد أو المجتهد شرطين:
الأول : أن يكون محيطًا بمدارك الشرع، متمكنًا من استثارة الظن بالنظر فيها، وتقديم ما يجب تقديمه، وتأخير ما يجب تأخيره .
الثاني : أن يكون عدلاً متجنبًا للمعاصى القادحة في العدالة ، فمن ليس عدلاً لا تقبل فتواه، قال الشاطبي في (الموافقات) : إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين:
أحدهما : فهم مقاصد الشريعة على كمالها .
والثاني : التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها .
فمن دقق النظر إذًا، أدرك بوضوح تام أن التجديد والاجتهاد لا يستطيعه أي واحد، بل من توفرت فيه الشروط الأساسية والتكميلية التى سبق وأشرنا إليها .
ما هي مراتب المجتهدين ؟
1- الذين استقلوا بالاستنباط وتقعيد القواعد دون تقليد لأحد أو تقيد بمذهب هم المجتهدون المستقلون كفقهاء الصحابة والتابعين وأصحاب المذاهب الأربعة .
2- والذين لم يبتكروا قواعد لأنفسهم بل سلكوا طريق إمام من أئمة المذاهب في الاجتهاد هم المجتهدون المنتسبون كالمزنى من أصحاب الشافعي بمصر.
3- والذين يخرجون وجهًا في المذاهب أو قولاً فيه هم أصحاب الوجوه كالغزالي .
4- بينما سُمى الذين يميزون بين الأقوى والقوي والضعيف، والراجح والمرجوح مجتهدو الفتوى كالرافعي والنووى. أما المجتهد المتجزئ فهو الذي يسد الحاجة إلى الاجتهاد في كل عصر، والاجتهاد ماض إلى يوم القيامة. قال الإمام الشافعي : (ما من حادثة إلا وللإسلام قول فيها بالحل أو بالحرمة).
ما يقبل التجديد الفقهي وما لا يقبله
الثوابت والمتغيرات :
أولاً :
ثوابت الأحكام : مثل العدل، والحرية، والحفاظ على مصالح الدنيا والآخرة ومنع الضرر والنزاع، وهي المقررة بالنصوص الشرعية بأنها الأحكام الأساسية المتعلقة بأصول الشريعة.
الأحكام المتغيرة : هي الخاضعة لتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان انسجامًا مع مبدأ المرونة .
أما أحكام العبادات : من صلاة وصيام وحج وزكاة ذات الغرض الديني للبحث فلا يصح تغييرها، لكن يصح تغيير بعض كيفيات العبادة كأداء الصلاة في الطائرة أو المحطة الفضائية، وكذلك التيسير على الحجاج في أداء المناسك بسبب الزحام، خصوصًا في الرجم .
أما أحكام الأسرة : (أو الأحوال الشخصية) فلا يجوز المساس بها، ويمكن الإفتاء بأن طلاق الثلاث يقع واحدة، ولكن لا يصح الزواج المدني، ولا الزواج المؤقت، ولا زواج المتعة، ولا يتسامح بالزواج في العدة أو الجمع بين الأختين، ويصح الزواج بالمرأة الكتابية مع بقائها على دينها لكن مع الكراهة، ويبطل الزواج بالمشركات ( من الهنديات واليابانيات والبوذيات) ولا يجوز تغيير نظام الإرث.
وأما أصول المعاملات : فلا يجوز تجاوزها كالتراضى في العقود والوفاء بها، وحماية الحقوق، وسد ذرائع الفساد. ويجوز تجديد أوضاع البيوع عرفًا إذا لم تخالف مقتضى العقد ككفالة وصيانة العين مدة بعد بيعها .
وأما الجنايات والجرائم فلا تزر وازرة وزر أخرى، ويمكن تقدير دية القتل العمد بالمال؛ لأنه من الصعب تحضير مائة إبل، لكن لا يجوز العفو أو إسقاط العقوبات المقدرة .
أما العلاقات مع غير المسلمين فترعاها المعاهدات لإشاعة الأمن والسلام والاستقرار، ويبقى الجهاد ماض إلى يوم الساعة لدحر العدوان وحماية المستضعفين في الأرض ودفع الأذى عن الدعاة .
وفي وسائل الإثبات : كالإقرار والشهادة والشاهد واليمين فيعمل بها، ويجوز الحبس للتهمة كما فعل صلى الله عليه وسلم ومن القرائن المعتبرة : البصمات الوراثية وهي أدق من البصمات الجنائية .
تغير الفتوى والأحكام بتغير المكان والزمان : قال القرافي في (الفروق) : (الجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين).
ومن عوامل التغير: فساد الأخلاق العامة وفساد الزمان : فمن أمثلة الأولى تضمين الأجير المشترك ( والأصل أنه أمين) مثل الخباز والقصار والخياط محافظة علىأموال الناس، ومنها منع النساء الشابات من حضور المساجد لصلاة الجماعة نظرًا لشيوع الفساد بخلاف زمن الرسول صلى الله عليه وسلم .
ومن أمثلة تغير الزمان جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن والإمامة والآذان خلافًا للعصور الأولى، حفاظًا على شعائر الدين. وعدم الاكتفاء بظاهر العدالة في الشهادة بل لابد من تزكية الشهود بواسطة ثقة للمحافظة على حقوق الناس، وهو رأى الصاحبين خلافًا للإمام الأعظم .
ثانيًا : ما يقبل التجديد الفقهي وما لا يقبله:
أ - ما لا تجديد فيه (ولا يجوز الاجتهاد فيه) :
الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة التى ثبتت بدليل قطعى الثبوت قطعى الدلالة مثل وجوب الصلوات الخمس، الصيام، الزكاة ، الحج، الشهادتين وتحريم جرائم الزنا والسرقة وشرب الخمر، وأكل أموال الناس بالباطل، وقتل النفس التى حرم الله إلا بالحق، والمحاربة، وكل عقوباتها المقدرة في القرآن والسنة، فلا اجتهاد في القطعيات (ولا مساغ للاجتهاد في مورد النص) مثل الدعوة لأن تكون صلاة الجمعة يوم الأحد في أمريكا مثلاً لجمع عدد أكبر من الناس في العُطل أو الصلاة قعودًا على كرسي لزيادة الاطمئنان ، ومثله التسوية في الميراث بين الذكر والأنثى.
ب - ما يقبل التجديد الفقهي أو ما يجوز الاجتهاد فيه :
- الأحكام ظنية الدلالة أو ظنية الثبوت :
ظنية الثبوت : يجتهد في سند الحديث ودرجة صحته وتختلف أنظار المجتهدين فيه، فمنهم من يأخذ به لاطمئنانه إلى ثبوته ومنهم من يرفضه، وهذا ما يؤدى لاختلاف الأحكام .
ظنى الدلالة : لاختلافهم في المعنى المراد منه ، وقوة دلالته على المعنى، فربما يكون النص عامًّا ويبقى على عمومه ، وربما يكون مخصصًا ببعض مدلوله ، والمطلق قد يجرى إلى إطلاقه والأمر وإن كان في الأصل للوجوب فربما يراد به النّدب ، وربمــا يـراد به الإباحة ، والنهى وإن كان حقيقة في التحريم ، فأحيانًا يصرف إلى الكراهة ، وقواعد اللغة، ومقاصد الشريعة هي التى يلجأ إليها لترجيح وجهة عما عداها .
- وإذا كانت الحادثة لا نص فيها ولا إجماع :
يبحث عن حكمها بـأدلة عقلية مثل القياس ، أو الاستحسان ، أو المصالح المرسلة أو العرُفْ ، أو الاستصحاب ونحوها من الأدلة المختلف فيها .
3- الخلاصة
وبعد فهذه القواعد في الاجتهاد الشرعي هي نفسها جارية في القانون الوضعي حيث ينفذ القضاة القانون عندما يكون صريحًا ( ولو كان ظالمًا).
نقائص البحث الفقهي المرتبط بالتجديد
على الرغم من التراث الفقهي العظيم الذي خلفه لنا الأجداد والذي لا يمكن إنكار عظمته ولا الاستغناء عن الاقتباس عنه، فإنه هناك بعض الهنات نذكرها فيما يلي :
1- الاستدلال بالحديث دون تمييز بين الصحيح والضعيف :
أما أسباب ذلك:
أ - فالثقة بالمجتهدين السابقين :
وربما كان التعصب سببًا في نصرة المذهب فيصحح الحديث الضعيف، ويضعف الصحيح.
ب - ثم تغليب الجانب التعليمي لاستثارة همه الطالب إلى مراجعة الحديث في دواوينه ومصادره الأصلية، فعادة المتقدمين السكوت عن الأحاديث حتى مجيء الإمام النووى .
ج - الرغبة في التوسع والجدل، والإسراف في العمل بالقياس والرأى دون التفات إلى الأحاديث وانقسام العلماء إلى فريقين:
أصحاب حديث وأثر، أهل فقه ونظر، وكأنما أخوانا متهاجرين.
2- الاعتماد على المختصرات الفقهية : (وعكسها المبسوطات التى ينتفع بها للمطالعة) .
أ - تعريف المختصرات (هي صناعة من التأليف متميزة بدقة الأسلوب وإيجاز العبارة) .
ب - خصوصياتها:
1- حقيقة الاختصار : هو ضم الشيء إلى شيء.
2- وقيل : رد الكثير إلى القليل، وفي القليل معنى كثير.
3- وقيل: إيجاز اللفظ مع استيفاء المعنى .
وربما يطلق على الكتاب تسمية (مختصر) دون أن يكون اختصارًا من كتاب معين بل لاشتماله على أهم المعلومات في ذلك الفن بأقصر العبارات وأوجزها ، مثل (مختصر القدوري) (ت 428هـ) في فقه الحنفية، ومختصر سيدى خليل (ت 767هـ) في فقه المالكية، ومختصر الخرقى في فقه الحنابلة .
ج - أما أهدافها :
1- فتيسير الحفظ على المبتدئين الأذكياء .
2- سرعة استحضارها للفقهاء.
د - التحذير منها:
- لا يجترأ على الإفتاء منها إلا بالاستعانة بالحواشي والشروح الكثيرة، فلعل اختصاره يوصله إلى الورطة الظلماء . فلا يجوز الإفتاء من الكتب المختصرة (كالنهر) وشرح الكنز للعيني (والدر المختار شرح نور الأبصار) .
- أو لعدم الاطلاع على حال مؤلفيها (كشرح الكنز) لملا مسكين، و(شرح النقابة) للقهستاني.
- أو لنقل الأقوال الضعيفة فيها كـ (قنية) الزاهدي.
وينبغي إلحاق كتب الأشباه والنظائر بها لشدّة الإيجاز في التعبير المخل، ويستعان بمراجعة حواشيها. قال اللكنوى في (النافع الكبير شرح الجامع الصغير) : وأما الكتب المختصرة بالاختصار المخل فلا يفتى منها إلا بعد نظر غائر وفكر دائر، وليس ذلك لعدم اعتبارها بل لأن اختصاره يوقع المفتى في الغلط كثيرًا) .
3- النقل بالمعنى في البحوث الفقهية المعاصرة :
أ - البحوث الفقهية الحديثة لا تستغنى عن الاقتباس من مؤلفات المتقدمين .
ويحبذ الفقهاء نقل النص خوفًا من محاذير: ليس أقلها عدم فهم النص واستيعابه، ثم تغيير الحكم، وتحريف المعاني .
ب - شروط النقل بالمعنى
1- عدم اختلاف المعنى .
2- والتأكد من فهم النص روحًا وجوهرًا .
3- صياغته في عبارة تؤدى المعنى المقصود من النص الأساسي، مثاله شروط ابن حمدان الحراني العشرة لمن أراد النقل بالمعنى: انتفاء الإضمار، التخصيص ، النسخ، التقـديم والتأخير، الاشتراك ، التجوز ، التقدير ، النقل، المعارض العقلي .
4- الإسهاب في التعريفات في بعض البحوث الفقهية المعاصرة
أ - إن الإطالة في التعريفات واجترار كل ما كتب قديمًا وحديثًا زيادة أو نقصانًا لم يعد في وقتنا ذا فائدة كبيرة، إذ أوفى الفقهاء المتأخرون تعريف المصطلحات في كل مذهب واحكموها غاية الإحكام، والمطلوب تبسيطها وإيضاح معناها تحت طائلة جعل البحث خاملاً فاقدًا لحيويته يرغم القارئ على تجاوزه دون سبب وجيه.
ب - أما سبب إسهاب الفقهاء في عرض التعريفات:
فكان لتدريب المتعلمين في الدفاع عن آرائهم وآراء أئمتهم ومذاهبهم والرد على مخالفيهم .
5- الإسهاب في الاستدلال لقطعيات الشريعة:
أ - أما دوافع الاختصار والإيجاز فهي: أن الإسهاب مضيعة للوقت وإهدار للجهد، وسبب للملل والضجر بموضوعات علمية انتهى الحوار فيها وأصبحت اليوم ثوابت ومسلمات كـ (المعلوم من الدين بالضرورة) .
ب - ومن أمثلة ذلك :
- الإطـالة في إثبات حجية الإجماع ((كما ذكره القاضى عبد الجبار في كتابه المغنى في أبواب التوحيد والعدل عندما نقض منهج شيخه أبى هشام) .
- بيع الحر الذي أجمعت الأمة عليه، فلا حاجة للتطويل في حجيته كما نبه إليه الشوكاني في كتابه (السيل الجرار).
6- عدم توضيح المسائل بالأمثلة الفقهية المعاصرة
أ - فقد نجح الفقهاء القدامي في استخراج الأمثلة الفقهية الشائعة في حياتهم لغة وعبارات وممارسات، بينما فقدت هذه الأمثلة حضورها في مجتمعاتنا المعاصرة، حيث أصبحت غريبة وغامضة وغير مفهومة للأجيال، فهي بحاجة إلى شرح وإيضاح ومعاجم فقهية ولغوية خاصة لبيان مقصودها.
والخلاصة: ضرورة المعاصرة واستمداد الأمثلة الفقهية الحديثة مع التصدى لظروف العصر وبيئته ومشاكله وهمومه بالاجتهاد مستمدة من صميم البيئة ومن واقع تجارب الناس وممارساتهم الفعلية. قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُم) تحت طائلة عزل الفقه عن مشاكل العصر: فكرًا وواقعًا ؛ لأن الأمثلة القديمة لم يعد لها وجود اجتماعي معاصر ولا حضور علمي. ( ولو أن الفقه الإسلامي مظلوم في دنيا التشريع والقانون - لأنه أبعد عن التطبيق والمعاصرة) .
7- تداخل الموضوعات الفقهية:
أ - أسباب صعوبة البحث في مصادر ومدونات الفقه الإسلامي (سوء التبويب) وسبب ذلك :
1- عدم وجود ترتيب موحد الأبواب والموضوعات الفقهية .
2- الاسترسال في التعبير وصعوبة الرجوع إلى الضمائر ومتعلقات الأفعال في بعض الكتب .
3- خلو جمل الكتب الفقهية القديمة الصفراء التى لا ننكر أهميتها وعظمتها من علامات الترقيم الإملائية ..
4- نثر الموضوعات الفقهية في غير مظنتها، فيظن الباحث خلو الكتاب منها، في حين تذكر المسألة في مواضع أخرى.
ب - مثال: بيع الوفاء ، ذكره البزازي في البيوع الفاسدة، وذكره قاضيخان وصاحب (البحر) في خيار الشرط، وذكره الزيلعى في الإكراه، وذكره صاحب (الدرر والغرر) في تذنيب قبيل باب الشفعة.
هذا التوزيع المختلف للموضوع الواحد في كتب الفقه هو إخلال بالمنهج السليم، أما علة لجوء الفقهاء إلى تلك الطريقة فهو من قبيل الاستطراد الذي يُعد عندهم إحدى فضائل التأليف في العصور الماضية، وهو ذكر الشيء لأدنى مناسبة .
ج - سيئات هذه الطريقة في العصر الحديث : ضياع الجهد واستنفاد الوقت.
د - تصدى العلماء لهذه المشكلة :
- قال الزركشي في كتابه (خبايا الزوايا) : (وبعد، فهذا كتاب عجيب وضعه، وغريب جمعه، ذكرت فيه المسائل التى ذكرها الإمامان الجليلان أبو القاسم الرافعي في شرحه للوجيز (فتح العزيز) وأبو زكريا في روضته (يقصد روضة الطالبين) تغمدهما الله برحمته في غير مظنتها من الأبواب، فقد يعرض للفطن الكشف عن ذلك فلا يجده مذكورًا في مظنته، فيظن خلو الكتابين عن ذلك، وهو مذكور في مواضع أخرى .. فاعتنيت بتتبع ذلك فردت كل شكل إلى شكله، وكل فرع إلى أصله رجاء الثواب وقصد التسهيل على الطلاب).
يُـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتبع ....
1- الطريقة السلفية : وهي العودة إلى فقه السلف من صحابة وتابعين والتخلى عن فقه المذاهب، وقد ألف الدكتور المرحوم محمد يوسف موسى كتابًا في (تاريخ الفقه الإسلامي : دعوة قوية لتجديده بالرجوع لمصادره الأولى).
وصنف بعضهم كتبًا في فقه السلف مثل (معجم فقه السلف) للأستاذ الشيخ المرحوم محمد المنتصر الكتانى ، و(موسوعة إبراهيم النخعى) للأستاذ الدكتور رواس قلعجي، وغيرهم كـ (فقه عمر) ، وبعض المجددين يشتط فيعادى فقه المذاهب أو يسيء تقدير مذاهبهم.
2- الطريقة الانتقائية أو الغوغائية : وهي انتقاء ما يحلو للنفس بالهوى والشهوة، واختيار بعض الأحكام وإهمال بعضها الآخر، مع أن الإسلام لا يتبعض، وكل لا يتجزأ، والحكم على هذه الطريقة كسابقتها أنها مجافية للصواب.
3- الطريقة العدوانية : وهي معاداة صرح الفقه الإسلامي برمته، والتخلى عن الثروة الفقهية الخصبة التى اعترف بها كبار الحقوقيين ورجال القانون في العالم المعاصر. وهي طريقة الهدم ومحاولة التغريب عند السذج . ومن منهجهم جعل النص الشرعي آخر المطاف، فيأخذون بحسب ميولهم وأهوائهم ما يرونه مصلحة، ويجعلون النص الشرعي في آخر المطاف للاستئناس احتياطيًّا. إذًا فما قيمة التشريع الإلهي خاصة عندما لا يحترم النص؟ وهل يجرؤ هؤلاء على إهمال نصوص القانون الوضعي ومطالبة القضاة بالتغاضى عنها؟
4- الطريقة التقريبية : أي تقريب الفقه من القانون الوضعى، وكأن للقانون الوضعي صفة القداسة، والفقه الإسلامي دونه شكلاً ومضمونًا، وهؤلاء يحاولون تأويل النصوص الشرعية تأويلاً بعيدًا منافيًا لصراحة النص وغايته، وهذا قلب للأوضاع؛ لأن القانون الوضعى يقر واقع العلاقات الاجتماعية لتحقيق الاستقرار بغض النظر عن الدين والأخلاق.
مع الإشارة إلى أن القوانين الوضعية غير مستقرة، وأنها قابلة للتعديل والتغيير، وتظل قاصرة في رأي واضعيها عن الوصول إلى مستوى السمو المتمثل في الدين والأخلاق . فكيف يصح أن نجعل هذه القوانين الوضعية أصلاً، والفقه الإسلامي تبعًا؟؟
5- طريقة تجديد الفقه المعتدلة المتوازنة أو الوسطية : المقبولة شرعًا وعقلاً، وهي غاية كل مسلم ملتزم بدينه، غيور عليه، وهي المقصود من بحثنا، وهذه الطريقة تحافظ أولاً على ثوابت الشريعة، وتراعى مقتضيات التطور على أساس المصالح المرسلة بما فيها الأعراف العامة، عملاً بروح النص، فهي تحقق إذًا الأصالة والمعاصرة، وحينئذ لا جمود عن مواكبة التطور. ومن أمثلتها قيام ظاهرة المصارف الإسلامية ومحاولة توسيعها ونشرها في أرجاء العالم العربي.
التعريفات
تعريف التجديد :
قال الفيروز ابادى في القاموس والزبيدى في تاج العروس : (الجد - بكسر الجيم - الاجتهاد في الأمر) ، والتجديد هو الاجتهاد في إخراج القديم بقالب جديد، إما بإخراجه إخراجًا حديثًا أو بكشف ما في القديم من خفاء، بإبراز خفاياه وخباياه، أو بتصويره بصورة مقبولة واقعية . وفي الحديث: (إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها) رواه أبو داود وهو صحيح .
تعريف الاجتهاد :
لغة : كما ذكر الآمدى في الإحكام هو : (استفراغ الوسع في تحقيق أمر من الأمور مستلزم للكلفة والمشقة) . واصطلاحًا: هو كما عرفه الكمال بن الهمام في التحرير : (بذل الطاقة من الفقيه في تحصيل حكم شرعي، عقليًّا كان أو نقليًّا، قطعيًّا أو ظنيًّا) .
لكن ما المقصود بالفقه الإسلامي؟
الفقه لغة هو الفهم، وهو كما عرفه الأصوليون: (العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية، أو المصادر التشريعية العشرة) .
وهكذا يتبين لنا أن التجديد الفقهي في الإسلام مرتبط ارتباطًا وثيقًا بعلم أصول الفقه، بل بدائرة أوسع من أصول الفقه اعتمادًا على:
- القواعد الكلية وما يتفرع عنها.
- الأخذ بمقاصد الشريعة ومكملاتها.
- رعاية ضوابط الاستحسان والاستصلاح والعرف وغيرها من مصادر التشريع .
- القواعد الكلية المعمول بها في كل المذاهب وهي خمسة .
وإذا كنا نتحدث عن الفقه الإسلامي فيجب أن نعلم أن الحاكمية لله، لقوله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَــقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَــــاصِلِينَ) (الأنعام :57) ، وقوله تعالى (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين) (الأعراف: 54) وهذا يعنى خروج النظم الوضعية وتشريعاتها عن موضوع بحثنا وحدوده .
شروط المجدد أو المجتهد
1- وهي الإسلام والبلوغ والعقل، وتسمى شروط التكليف .
2- ومعرفة القرآن وعلومه، والسنة الشريفة وعلومها، ومواضع الإجماع، واللغة العربية لفهم خطاب العرب، ووجوه القياس ، وتسمى هذه الشروط: أساسية .
3- وهناك شروط تكميلية، مثل معرفة البراءة الأصلية، والمقاصد الشرعية، والقواعد الكلية الفقهية، ومواضع الخلاف، والعُرف، والمنطق، إضافة إلى عدالة المجتهد وصلاحه، وحُسن سيرته حتى يثق الناس بأقواله، مع الورع في المأكل والابتعاد عن الشبهات، والعفة عمّا في أيدى الناس، والافتقار إلى الله تعالى، والتوجه إليه بالدعاء، ولابد من ثقة المفتى بنفسه وشهادة الناس بذلك، وموافقة عمله مقتضى قوله .
أهلية المُجدّد : فإن حاول بعض الناس ممن لا أهلية له الاجتهاد، فإن اجتهاده غير مقبول، لأن الاجتهاد له أصول، ومن لا يُلمّ بأصوله ويجهل قواعده، يكون اجتهاده مبنيًا على الهوى، والهوى يُضل ولا يهدى . إن التقدم لا يكون بالعبث في الأحكام الشرعية، أو الإتيان بما يخُالف النص أو يتخطاه، وإنما هو بإرادة الدولة وتخطيطها ، وسنعطى مثالاً على ذلك هو اليابان، فقد أصبحت في مدة خمسين سنة تنافس الغرب والشرق بتقنيتها العالية الدقيقة، بل فاقت أوروبا وأمريكا .
من هنا اشترط الإمام الغزالي في المجدد أو المجتهد شرطين:
الأول : أن يكون محيطًا بمدارك الشرع، متمكنًا من استثارة الظن بالنظر فيها، وتقديم ما يجب تقديمه، وتأخير ما يجب تأخيره .
الثاني : أن يكون عدلاً متجنبًا للمعاصى القادحة في العدالة ، فمن ليس عدلاً لا تقبل فتواه، قال الشاطبي في (الموافقات) : إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين:
أحدهما : فهم مقاصد الشريعة على كمالها .
والثاني : التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها .
فمن دقق النظر إذًا، أدرك بوضوح تام أن التجديد والاجتهاد لا يستطيعه أي واحد، بل من توفرت فيه الشروط الأساسية والتكميلية التى سبق وأشرنا إليها .
ما هي مراتب المجتهدين ؟
1- الذين استقلوا بالاستنباط وتقعيد القواعد دون تقليد لأحد أو تقيد بمذهب هم المجتهدون المستقلون كفقهاء الصحابة والتابعين وأصحاب المذاهب الأربعة .
2- والذين لم يبتكروا قواعد لأنفسهم بل سلكوا طريق إمام من أئمة المذاهب في الاجتهاد هم المجتهدون المنتسبون كالمزنى من أصحاب الشافعي بمصر.
3- والذين يخرجون وجهًا في المذاهب أو قولاً فيه هم أصحاب الوجوه كالغزالي .
4- بينما سُمى الذين يميزون بين الأقوى والقوي والضعيف، والراجح والمرجوح مجتهدو الفتوى كالرافعي والنووى. أما المجتهد المتجزئ فهو الذي يسد الحاجة إلى الاجتهاد في كل عصر، والاجتهاد ماض إلى يوم القيامة. قال الإمام الشافعي : (ما من حادثة إلا وللإسلام قول فيها بالحل أو بالحرمة).
ما يقبل التجديد الفقهي وما لا يقبله
الثوابت والمتغيرات :
أولاً :
ثوابت الأحكام : مثل العدل، والحرية، والحفاظ على مصالح الدنيا والآخرة ومنع الضرر والنزاع، وهي المقررة بالنصوص الشرعية بأنها الأحكام الأساسية المتعلقة بأصول الشريعة.
الأحكام المتغيرة : هي الخاضعة لتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان انسجامًا مع مبدأ المرونة .
أما أحكام العبادات : من صلاة وصيام وحج وزكاة ذات الغرض الديني للبحث فلا يصح تغييرها، لكن يصح تغيير بعض كيفيات العبادة كأداء الصلاة في الطائرة أو المحطة الفضائية، وكذلك التيسير على الحجاج في أداء المناسك بسبب الزحام، خصوصًا في الرجم .
أما أحكام الأسرة : (أو الأحوال الشخصية) فلا يجوز المساس بها، ويمكن الإفتاء بأن طلاق الثلاث يقع واحدة، ولكن لا يصح الزواج المدني، ولا الزواج المؤقت، ولا زواج المتعة، ولا يتسامح بالزواج في العدة أو الجمع بين الأختين، ويصح الزواج بالمرأة الكتابية مع بقائها على دينها لكن مع الكراهة، ويبطل الزواج بالمشركات ( من الهنديات واليابانيات والبوذيات) ولا يجوز تغيير نظام الإرث.
وأما أصول المعاملات : فلا يجوز تجاوزها كالتراضى في العقود والوفاء بها، وحماية الحقوق، وسد ذرائع الفساد. ويجوز تجديد أوضاع البيوع عرفًا إذا لم تخالف مقتضى العقد ككفالة وصيانة العين مدة بعد بيعها .
وأما الجنايات والجرائم فلا تزر وازرة وزر أخرى، ويمكن تقدير دية القتل العمد بالمال؛ لأنه من الصعب تحضير مائة إبل، لكن لا يجوز العفو أو إسقاط العقوبات المقدرة .
أما العلاقات مع غير المسلمين فترعاها المعاهدات لإشاعة الأمن والسلام والاستقرار، ويبقى الجهاد ماض إلى يوم الساعة لدحر العدوان وحماية المستضعفين في الأرض ودفع الأذى عن الدعاة .
وفي وسائل الإثبات : كالإقرار والشهادة والشاهد واليمين فيعمل بها، ويجوز الحبس للتهمة كما فعل صلى الله عليه وسلم ومن القرائن المعتبرة : البصمات الوراثية وهي أدق من البصمات الجنائية .
تغير الفتوى والأحكام بتغير المكان والزمان : قال القرافي في (الفروق) : (الجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين).
ومن عوامل التغير: فساد الأخلاق العامة وفساد الزمان : فمن أمثلة الأولى تضمين الأجير المشترك ( والأصل أنه أمين) مثل الخباز والقصار والخياط محافظة علىأموال الناس، ومنها منع النساء الشابات من حضور المساجد لصلاة الجماعة نظرًا لشيوع الفساد بخلاف زمن الرسول صلى الله عليه وسلم .
ومن أمثلة تغير الزمان جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن والإمامة والآذان خلافًا للعصور الأولى، حفاظًا على شعائر الدين. وعدم الاكتفاء بظاهر العدالة في الشهادة بل لابد من تزكية الشهود بواسطة ثقة للمحافظة على حقوق الناس، وهو رأى الصاحبين خلافًا للإمام الأعظم .
ثانيًا : ما يقبل التجديد الفقهي وما لا يقبله:
أ - ما لا تجديد فيه (ولا يجوز الاجتهاد فيه) :
الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة التى ثبتت بدليل قطعى الثبوت قطعى الدلالة مثل وجوب الصلوات الخمس، الصيام، الزكاة ، الحج، الشهادتين وتحريم جرائم الزنا والسرقة وشرب الخمر، وأكل أموال الناس بالباطل، وقتل النفس التى حرم الله إلا بالحق، والمحاربة، وكل عقوباتها المقدرة في القرآن والسنة، فلا اجتهاد في القطعيات (ولا مساغ للاجتهاد في مورد النص) مثل الدعوة لأن تكون صلاة الجمعة يوم الأحد في أمريكا مثلاً لجمع عدد أكبر من الناس في العُطل أو الصلاة قعودًا على كرسي لزيادة الاطمئنان ، ومثله التسوية في الميراث بين الذكر والأنثى.
ب - ما يقبل التجديد الفقهي أو ما يجوز الاجتهاد فيه :
- الأحكام ظنية الدلالة أو ظنية الثبوت :
ظنية الثبوت : يجتهد في سند الحديث ودرجة صحته وتختلف أنظار المجتهدين فيه، فمنهم من يأخذ به لاطمئنانه إلى ثبوته ومنهم من يرفضه، وهذا ما يؤدى لاختلاف الأحكام .
ظنى الدلالة : لاختلافهم في المعنى المراد منه ، وقوة دلالته على المعنى، فربما يكون النص عامًّا ويبقى على عمومه ، وربما يكون مخصصًا ببعض مدلوله ، والمطلق قد يجرى إلى إطلاقه والأمر وإن كان في الأصل للوجوب فربما يراد به النّدب ، وربمــا يـراد به الإباحة ، والنهى وإن كان حقيقة في التحريم ، فأحيانًا يصرف إلى الكراهة ، وقواعد اللغة، ومقاصد الشريعة هي التى يلجأ إليها لترجيح وجهة عما عداها .
- وإذا كانت الحادثة لا نص فيها ولا إجماع :
يبحث عن حكمها بـأدلة عقلية مثل القياس ، أو الاستحسان ، أو المصالح المرسلة أو العرُفْ ، أو الاستصحاب ونحوها من الأدلة المختلف فيها .
3- الخلاصة
وبعد فهذه القواعد في الاجتهاد الشرعي هي نفسها جارية في القانون الوضعي حيث ينفذ القضاة القانون عندما يكون صريحًا ( ولو كان ظالمًا).
نقائص البحث الفقهي المرتبط بالتجديد
على الرغم من التراث الفقهي العظيم الذي خلفه لنا الأجداد والذي لا يمكن إنكار عظمته ولا الاستغناء عن الاقتباس عنه، فإنه هناك بعض الهنات نذكرها فيما يلي :
1- الاستدلال بالحديث دون تمييز بين الصحيح والضعيف :
أما أسباب ذلك:
أ - فالثقة بالمجتهدين السابقين :
وربما كان التعصب سببًا في نصرة المذهب فيصحح الحديث الضعيف، ويضعف الصحيح.
ب - ثم تغليب الجانب التعليمي لاستثارة همه الطالب إلى مراجعة الحديث في دواوينه ومصادره الأصلية، فعادة المتقدمين السكوت عن الأحاديث حتى مجيء الإمام النووى .
ج - الرغبة في التوسع والجدل، والإسراف في العمل بالقياس والرأى دون التفات إلى الأحاديث وانقسام العلماء إلى فريقين:
أصحاب حديث وأثر، أهل فقه ونظر، وكأنما أخوانا متهاجرين.
2- الاعتماد على المختصرات الفقهية : (وعكسها المبسوطات التى ينتفع بها للمطالعة) .
أ - تعريف المختصرات (هي صناعة من التأليف متميزة بدقة الأسلوب وإيجاز العبارة) .
ب - خصوصياتها:
1- حقيقة الاختصار : هو ضم الشيء إلى شيء.
2- وقيل : رد الكثير إلى القليل، وفي القليل معنى كثير.
3- وقيل: إيجاز اللفظ مع استيفاء المعنى .
وربما يطلق على الكتاب تسمية (مختصر) دون أن يكون اختصارًا من كتاب معين بل لاشتماله على أهم المعلومات في ذلك الفن بأقصر العبارات وأوجزها ، مثل (مختصر القدوري) (ت 428هـ) في فقه الحنفية، ومختصر سيدى خليل (ت 767هـ) في فقه المالكية، ومختصر الخرقى في فقه الحنابلة .
ج - أما أهدافها :
1- فتيسير الحفظ على المبتدئين الأذكياء .
2- سرعة استحضارها للفقهاء.
د - التحذير منها:
- لا يجترأ على الإفتاء منها إلا بالاستعانة بالحواشي والشروح الكثيرة، فلعل اختصاره يوصله إلى الورطة الظلماء . فلا يجوز الإفتاء من الكتب المختصرة (كالنهر) وشرح الكنز للعيني (والدر المختار شرح نور الأبصار) .
- أو لعدم الاطلاع على حال مؤلفيها (كشرح الكنز) لملا مسكين، و(شرح النقابة) للقهستاني.
- أو لنقل الأقوال الضعيفة فيها كـ (قنية) الزاهدي.
وينبغي إلحاق كتب الأشباه والنظائر بها لشدّة الإيجاز في التعبير المخل، ويستعان بمراجعة حواشيها. قال اللكنوى في (النافع الكبير شرح الجامع الصغير) : وأما الكتب المختصرة بالاختصار المخل فلا يفتى منها إلا بعد نظر غائر وفكر دائر، وليس ذلك لعدم اعتبارها بل لأن اختصاره يوقع المفتى في الغلط كثيرًا) .
3- النقل بالمعنى في البحوث الفقهية المعاصرة :
أ - البحوث الفقهية الحديثة لا تستغنى عن الاقتباس من مؤلفات المتقدمين .
ويحبذ الفقهاء نقل النص خوفًا من محاذير: ليس أقلها عدم فهم النص واستيعابه، ثم تغيير الحكم، وتحريف المعاني .
ب - شروط النقل بالمعنى
1- عدم اختلاف المعنى .
2- والتأكد من فهم النص روحًا وجوهرًا .
3- صياغته في عبارة تؤدى المعنى المقصود من النص الأساسي، مثاله شروط ابن حمدان الحراني العشرة لمن أراد النقل بالمعنى: انتفاء الإضمار، التخصيص ، النسخ، التقـديم والتأخير، الاشتراك ، التجوز ، التقدير ، النقل، المعارض العقلي .
4- الإسهاب في التعريفات في بعض البحوث الفقهية المعاصرة
أ - إن الإطالة في التعريفات واجترار كل ما كتب قديمًا وحديثًا زيادة أو نقصانًا لم يعد في وقتنا ذا فائدة كبيرة، إذ أوفى الفقهاء المتأخرون تعريف المصطلحات في كل مذهب واحكموها غاية الإحكام، والمطلوب تبسيطها وإيضاح معناها تحت طائلة جعل البحث خاملاً فاقدًا لحيويته يرغم القارئ على تجاوزه دون سبب وجيه.
ب - أما سبب إسهاب الفقهاء في عرض التعريفات:
فكان لتدريب المتعلمين في الدفاع عن آرائهم وآراء أئمتهم ومذاهبهم والرد على مخالفيهم .
5- الإسهاب في الاستدلال لقطعيات الشريعة:
أ - أما دوافع الاختصار والإيجاز فهي: أن الإسهاب مضيعة للوقت وإهدار للجهد، وسبب للملل والضجر بموضوعات علمية انتهى الحوار فيها وأصبحت اليوم ثوابت ومسلمات كـ (المعلوم من الدين بالضرورة) .
ب - ومن أمثلة ذلك :
- الإطـالة في إثبات حجية الإجماع ((كما ذكره القاضى عبد الجبار في كتابه المغنى في أبواب التوحيد والعدل عندما نقض منهج شيخه أبى هشام) .
- بيع الحر الذي أجمعت الأمة عليه، فلا حاجة للتطويل في حجيته كما نبه إليه الشوكاني في كتابه (السيل الجرار).
6- عدم توضيح المسائل بالأمثلة الفقهية المعاصرة
أ - فقد نجح الفقهاء القدامي في استخراج الأمثلة الفقهية الشائعة في حياتهم لغة وعبارات وممارسات، بينما فقدت هذه الأمثلة حضورها في مجتمعاتنا المعاصرة، حيث أصبحت غريبة وغامضة وغير مفهومة للأجيال، فهي بحاجة إلى شرح وإيضاح ومعاجم فقهية ولغوية خاصة لبيان مقصودها.
والخلاصة: ضرورة المعاصرة واستمداد الأمثلة الفقهية الحديثة مع التصدى لظروف العصر وبيئته ومشاكله وهمومه بالاجتهاد مستمدة من صميم البيئة ومن واقع تجارب الناس وممارساتهم الفعلية. قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُم) تحت طائلة عزل الفقه عن مشاكل العصر: فكرًا وواقعًا ؛ لأن الأمثلة القديمة لم يعد لها وجود اجتماعي معاصر ولا حضور علمي. ( ولو أن الفقه الإسلامي مظلوم في دنيا التشريع والقانون - لأنه أبعد عن التطبيق والمعاصرة) .
7- تداخل الموضوعات الفقهية:
أ - أسباب صعوبة البحث في مصادر ومدونات الفقه الإسلامي (سوء التبويب) وسبب ذلك :
1- عدم وجود ترتيب موحد الأبواب والموضوعات الفقهية .
2- الاسترسال في التعبير وصعوبة الرجوع إلى الضمائر ومتعلقات الأفعال في بعض الكتب .
3- خلو جمل الكتب الفقهية القديمة الصفراء التى لا ننكر أهميتها وعظمتها من علامات الترقيم الإملائية ..
4- نثر الموضوعات الفقهية في غير مظنتها، فيظن الباحث خلو الكتاب منها، في حين تذكر المسألة في مواضع أخرى.
ب - مثال: بيع الوفاء ، ذكره البزازي في البيوع الفاسدة، وذكره قاضيخان وصاحب (البحر) في خيار الشرط، وذكره الزيلعى في الإكراه، وذكره صاحب (الدرر والغرر) في تذنيب قبيل باب الشفعة.
هذا التوزيع المختلف للموضوع الواحد في كتب الفقه هو إخلال بالمنهج السليم، أما علة لجوء الفقهاء إلى تلك الطريقة فهو من قبيل الاستطراد الذي يُعد عندهم إحدى فضائل التأليف في العصور الماضية، وهو ذكر الشيء لأدنى مناسبة .
ج - سيئات هذه الطريقة في العصر الحديث : ضياع الجهد واستنفاد الوقت.
د - تصدى العلماء لهذه المشكلة :
- قال الزركشي في كتابه (خبايا الزوايا) : (وبعد، فهذا كتاب عجيب وضعه، وغريب جمعه، ذكرت فيه المسائل التى ذكرها الإمامان الجليلان أبو القاسم الرافعي في شرحه للوجيز (فتح العزيز) وأبو زكريا في روضته (يقصد روضة الطالبين) تغمدهما الله برحمته في غير مظنتها من الأبواب، فقد يعرض للفطن الكشف عن ذلك فلا يجده مذكورًا في مظنته، فيظن خلو الكتابين عن ذلك، وهو مذكور في مواضع أخرى .. فاعتنيت بتتبع ذلك فردت كل شكل إلى شكله، وكل فرع إلى أصله رجاء الثواب وقصد التسهيل على الطلاب).
يُـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتبع ....